المعروف (١)
قد ذكرنا أصله ، وهي في القرآن على أربعة أوجه :
__________________
(١) قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في" المعروف" الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به ، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها. فقال بعضهم : ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرّب قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت.
واختلف قائلو هذا القول في معنى : " أكل ذلك بالمعروف". فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي قال ، أخبرني من سمع ابن عباس يقول : " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" ، قال : بأطراف أصابعه.
وقال آخرون : بل" المعروف" في ذلك : أن يأكل ما يسدّ جوعه ، ويلبس ما وارى العورة. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : إن المعروف ليس بلبس الكتّان ولا الحلل ، ولكن ما سدّ الجوع ووارى العورة.
وقال آخرون : بل ذلك" المعروف" ، أكل تمره ، وشرب رسل ماشيته ، بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة ، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض. ذكر من قال ذلك : حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموال أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها؟ قال : بلى! قال : ألست تهنأ جرباها؟ قال : بلى! قال : ألست تلطّ حياضها؟ قال : بلى! قال : ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال : بلى! قال : فأصب من رسلها يعني : من لبنها.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : " المعروف" الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله : "(وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)" ، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله.
وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته. فلما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه ، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيما كان ربّ المال أو مدركا رشيدا وكان عليه إن تعدّى فاستهلكه بأكل أو غيره ، ضمانه لمن استهلكه عليه ، بإجماع من الجميع وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه ، سبيله سبيل غيره ، وإن فارقه في أنّ له الاستقراض منه عند الحاجة إليه ، كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه ، إذا كان قيّما بما فيه مصلحته. [جامع البيان : ٧ / ٥٩٤].