بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد ، وقد قيل ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له : فيماذا قتلت؟ فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء ، وقد قيل ، ثم ضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» (١).
(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها.
(وَمَثَلُ) نفقات (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ) أي : طلب (مَرْضاتِ اللهِ) أي : رضاه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : تثبيتا بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم ، والصبر على جميع مشاق التكاليف ، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال ، الذي هو شقيق الروح ، فإن بذله أشق شيء على النفس ؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها ، وقلّ طمعها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات ، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعها في اتباع الشهوات ، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله : هز من عطفه وحرك من نشاطه.
فإن قيل : ما معنى التبعيض؟ أجيب : بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ، ومن إخلاص قلبه ، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ) أي : بستان (بِرَبْوَةٍ) وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء ، وإنما جعلها بربوة ، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها (أَصابَها وابِلٌ) أي : مطر شديد كثير. (فَأَتَتْ) أي : أعطت (أُكُلَها) أي : ثمرتها ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف ، والباقون بضمها (ضِعْفَيْنِ) أي : مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل : أربعة أمثاله ، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه ، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي ، وقال أبو حيان : يحتمل أنها للتكثير أي : ضعفا بعد ضعف أي : أضعافا كثيرة ، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط ، بل بعشر وسبعمائة وأزيد ، ونصبه على الحال أي : مضاعفا.
(فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي : مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها ، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل ، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أي : أيحب حبا شديدا (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أي : بستان (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخلة ، وهي الشجرة القائمة على ساق ، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل
__________________
(١) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٢.