وسواد ، وحسن وقبح ، وتمام ونقص ، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره ، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا : عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها : العلم ، فإنه كان يخبر عن الغيوب ، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا ، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا ، فكأنه تعالى يقول : كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجرا للنصارى عن قولهم التثليث فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة ، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء (الْحَكِيمُ) في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب ، وأنّ علم عيسى ببعض الصور ، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلها بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهارا لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعا عدم الإلهية ؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادرا على كل الممكنات عالما بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود : «حدّثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال : يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (١).
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول : أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» (٢).
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي : القرآن (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل : كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون ، ٥٠] أي : كل واحد منهما آية وقوله تعالى : (وَأُخَرُ) نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر (مُتَشابِهاتٌ) أي : محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر.
فإن قيل : لم جعل بعضه متشابها وهلا كان كله محكما؟ أجيب : بأن في المتشابه من الابتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٠٨ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٨ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٧٦.
(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٤٤.