قال الفرّاء : وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل : لليهود وقيل : للمؤمنين (فِي فِئَتَيْنِ) أي : فرقتين (الْتَقَتا) يوم بدر (فِئَةٌ) مؤمنة (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : طاعته وهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف (وَ) فئة (أُخْرى كافِرَةٌ) تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي : ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال ، ٦٦] بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال ، ٦٥] والباقون بالياء على الغيبة أي : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
فإن قيل : هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال ، ٤٤] أجيب : بأنه قللهم أوّلا حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا إمدادا من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين (رَأْيَ) أي : في رأي (الْعَيْنِ) أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أي : يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَعِبْرَةً) أي : عظة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي : ما تشتهيه النفس ، وتدعو إليه ، والمزين هو الله تعالى للابتلاء كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) [الكهف ، ٧] أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل : الشيطان هو المزين ، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن : الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها ، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [ص ، ٣٢] والشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ثم بيّن ذلك بقوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ) إنما بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان (وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار وهو المال الكثير قيل : ملء مسك ثور أي : ملء جلده وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : القنطار مائة ألف دينار. وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقال (الْمُقَنْطَرَةِ) أي : المجمعة. وقال السديّ : المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفرّاء : المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) قيل : سمي الذهب ذهبا ؛ لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة ؛ لأنها تنفض أي : تتفرّق (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي : الحسان ، وقال سعيد بن جبير : هي الراعية يقال : أسام الخيل وسوّمها والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء (وَالْأَنْعامِ) جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه (وَالْحَرْثِ) أي : الزرع (ذلِكَ)