في صحته ؛ لأنّ الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعنه في الحجاب» (١).
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي : قبل مريم من أمّها ورضي بها في النذر مكان الذكر (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي : أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد الفاء وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أنّ الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي : جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها فلا بدّ من تقدير مضاف في الآية وهو مصالح ؛ لأنّ كفالة البدن لا معنى لها ، وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدّوا زكريا مرفوعا على الفاعلية.
روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد الأقصى ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ؛ لأنها بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح فقال زكريا : أنا أحق بها ؛ لأنّ خالتها عندي ، فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمّها التي ولدتها لكنا نقترع فيها فتكون عند من خرج سهمه وكانوا تسعة وعشرين رجلا فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقوا فيه أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره.
وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي : الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدّمها وكذلك هو من المسجد ويقال أيضا للمسجد محراب قال المبرّد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.)
قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإذا وجد عندها ذلك. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك (قالَتْ) وهي صغيرة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يأتيني به من الجنة قيل : تكلمت في المهد وهي صغيرة كما تكلم ابنها عيسى وهو صغير في المهد ولم ترضع ثديا قط ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة وفي هذا دليل وأي دليل على كرامة الأولياء وليس ذلك معجزة لزكريا كما زعمه جماعة ؛ لأنّ ذلك مدفوع باشتباه الأمر عليه حتى قال لها : أنى لك هذا؟ ولو كان معجزة له لادعاها وقطع بها ؛ لأنّ النبيّ شأنه ذلك ويدل عليها غير ذلك كقصة أصحاب الكهف ولبثهم في الكهف سنين عددا بلا طعام ولا شراب وقصة آصف من إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف ورؤية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر جيشه بنهاوند حين قال : يا سارية الجبل وسماع سارية ذلك وكان بينهما مسافة شهر ، وشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضره ، وبالجملة فكرامات الأولياء حق ثابتة بالكتاب والسنة وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٨٦.