أحدا بعدك ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» (١). ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى :
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي : علم (مِنْهُمُ) علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس (الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي) قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي : أعواني وقوله : (إِلَى اللهِ) متعلق بمحذوف حال من الياء أي : من أنصاري ذاهبا إلى الله تعالى ملتجئا إليه تعالى لأنصر دينه وقيل : إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أعوان دينه واختلفوا في الحواريين ، فقال السدي : لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما ، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شأن زوجك أراه كئيبا؟ قالت : لا تسأليني قالت : أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت : إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمرا فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت : فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك ، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت : فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى : قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط ، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر؟ قال : من أرض كذا قال : فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا ، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال : إنّ رجلا دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا أفعل فإنه إن عاش وقع شرّ. قال الملك : لا عليك. قال عيسى : إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال : نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال : ما تصنعون؟ قالوا : نصطاد السمك قالوا : ومن أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فقالوا : (آمَنَّا) أي : صدقنا (بِاللهِ وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الإنجيل (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن : كانوا قصارين سموا بذلك ؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي : يبيضونها ، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء : سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال : يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه
__________________
(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٣ ، ٤ / ٣٨٥.