لتراخي المخبر عنه.
وقوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف أي : أمر عيسى وقوله تعالى : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي : الشاكين خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم والمراد غيره فحاشا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكون ممتريا.
(فَمَنْ حَاجَّكَ) أي : جادلك من النصارى (فِيهِ) أي : عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله (فَقُلْ) لهم (تَعالَوْا) أي : هلموا بالرأي والعزم (نَدْعُ) جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي : ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس ؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) بأن نقول : اللهم إلعن الكاذب بأمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمدا نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد غدا محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو صلىاللهعليهوسلم يقول لهم : «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران ـ وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب ـ : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا فقال : «إني أنابذكم» فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها ، فصالحهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ذلك وقال : «والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر» ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(١) [الأحزاب ، ٣٣] ، وفي ذلك دليل على نبوّته صلىاللهعليهوسلم وعلى فضل أهل الكساء رضي الله تعالى عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين.
فائدة : رسمت لعنة هنا بالتاء المجرورة ، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي عليها بالهاء ، والباقون بالتاء.
__________________
(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٢٤.