ولها ثلاث مراتب :
الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح ، ٢٦].
والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم ، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) [المائدة ، ٦٥] [الأعراف ، ٩٦] وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران ، ١٠٢] وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيرا من أحد. قرأ ابن كثير : فيه هدى ، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو ، فمثال المكسورة به أن يوصل ، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك ، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك ، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه ، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت ترابا أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّنا مثل : سميع عليم أو مشدّدا مثل : فتمّ ميقات ربه.
ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان ، والإيمان لغة التصديق وشرعا قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلىاللهعليهوسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده ، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة ، ٢٢] وقال : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل ، ١٠٦] وقال : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة ، ٤١] وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ، ٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة ، ١٧٨] فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.
فإن قيل : قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره : إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، أجيب : بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واوا وكذا يقرأ حمزة في الوقف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيآتها يقال : قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ولذلك ذكر في سياق المدح (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء ، ١٦٢] وفي معرض الذمّ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) [الماعون ، ٤] والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [البقرة ، ٢١٣] يعني : الكتب ، والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)