ولما قالت اليهود لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «كان ذلك حلالا لإبراهيم» فقالوا : كل ما نحرّمه اليوم كان حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا» نزل.
(كُلُّ الطَّعامِ) أي : المطعومات أو كل أنواع الطعام (كانَ حِلًّا) أي : حلالا أكله (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) والحل مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع قال تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة ، ١٠] (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) وهو يعقوب صلىاللهعليهوسلم (عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالا له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة فليس في التوراة حرمتها. واختلفوا في الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه وفي سببه ، فقال مقاتل والكلبي : كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وسبب ذلك أنه مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان ذلك أحب إليه فحرمه ، وقال ابن عباس والضحاك : هي العروق وسبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا ـ وهو بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ـ وكان أصل وجعه أنه كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا ثم قال له : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا فكان لا ينام بالليل من الوجع فحلف يعقوب لئن عافاه الله تعالى أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق ، فحرّمه على نفسه وكان بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
وقال ابن عباس : لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرّمها يعقوب على نفسه ، ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرّم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي : حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها. وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم وإنما حرموا على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عزوجل وأكذبهم الله تعالى فقال تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) ليتبين صدق قولكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيه فبهتوا ولم يأتوا بها وفي إخباره صلىاللهعليهوسلم عما في التوراة دليل على نبوّته قال الله تعالى :
(فَمَنِ افْتَرى) أي : ابتدع (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : ظهور الحجة بأنّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : المتجاوزون الحق إلى الباطل.
وقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم (صَدَقَ اللهُ) تعريض بكذبهم أي : ثبت أنّ الله صادق في هذا كجميع ما أخبر به وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : ملة الإسلام التي أنا عليها التي هي في الأصل ملة إبراهيم حتى تخلصوا من اليهودية التي وطنتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله تعالى لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى لإبراهيم عليهالسلام ومن تبعه (حَنِيفاً) أي : مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام وقوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيه إشارة إلى أن اتباع إبراهيم صلىاللهعليهوسلم واجب في