التوحيد الصرف ، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط وهو تحريف التوراة وعن التفريط وهو ترك العمل وفيه إشارة إلى التعريض بشرك اليهود.
ولما قالت اليهود للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل نزل.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) أي : جعله الله متعبدا لهم وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين (١). ولما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام وقيل : أوّل من بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ـ بضاد معجمة وحاء مهملة ـ سمي بذلك ؛ لأنه ضرّح من الأرض أي : بعد ويطوف به الملائكة ، فلما أهبط أمر بأن يحجه ويطوف حوله ، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات.
قال البيضاوي : وهذا القول لا يلائم ظاهر الآية وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش (لَلَّذِي) أي : للبيت الذي (بِبَكَّةَ) بالباء لغة في مكة سميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة أي : تدقها فلم يرمها جبار بسوء إلا وقسمه الله وسميت مكة بالميم لقلة مائها من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم ؛ لأنّ الرحمة تنزل بها وقوله تعالى : (مُبارَكاً) حال من الذي أي : ذا بركة لأنه كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجوا واعتمره واعتكف عنده أو طاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأنّ فيه آيات عجيبة كما قال تعالى :
(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها ، وإذا قصدت الجارحة صيدا فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل ، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركا وهدى وقوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) مبتدأ حذف خبره أي : منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي : أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسّلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه ، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين ، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة ، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا
__________________
(١) في الحديث عن أبي ذر قال : «قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال : المسجد الحرام ، قال : قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى. قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّه ، فإن الفضل فيه». ـ ـ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٦٦ ، ومسلم في المساجد حديث ٥٢٠.