الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي.
وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلا قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : إنّ في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : «بالمعروف» (١).
تنبيه : إيراد هذا التقسيم بعد قوله : (وَلا تَأْكُلُوها) يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئا ، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئا بغير المعروف ، كما أنّ قوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافا ومبادرة لكبرهم (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي : اليتامى (أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا) ندبا (عَلَيْهِمْ) بأنهم قبضوها ، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافا لأبي حنيفة (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي : حافظا الأعمال خلقه ومحاسبتهم.
(لِلرِّجالِ) أي : الذكور (نَصِيبٌ) أي : حظ (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي : المتوفون (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أي : المال (أَوْ كَثُرَ) جعله الله (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي : مقطوعا بتسليمه إليهم.
روي أن أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه توفي وترك امرأته أم كحة ـ بضمّ الكاف والحاء المشدّدة ـ وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكرا إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون : لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة ، فجاءت أمّ كحة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مسجد الفضيخ ـ وهو بالضاد والخاء المعجمتين ، موضع بالمدينة ، قيل : لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة ؛ لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى ـ فشكت إليه فقالت : يا رسول الله إنّ أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات ، وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهنّ وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته شيئا ، وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين ، فدعاهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلأ ولا ينكي عدوّا ، فنزلت هذه الآية ، فأثبتت لهنّ الميراث فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تقربا من مال أوس شيئا فإنّ الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهنّ» فأنزل الله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فأعطى صلىاللهعليهوسلم أمّ كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العمّ» (٢) وهذا دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) للميراث (أُولُوا الْقُرْبى) أي : ذوو القرابة ممن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) أي : أعطوهم (مِنْهُ) أي : المقسوم شيئا قبل القسمة تطييبا لقلوبهم وتصدّقا عليهم ، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة ، وقيل : أمر وجوب.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم : هي منسوخة بآية المواريث كالوصية ، وعن سعيد بن جبير : إنّ ناسا يقولون : نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها الناس (وَقُولُوا لَهُمْ
__________________
(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٨٥ ، وابن حجر في فتح الباري ٨ / ٢٤١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٢٢ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٨٩ ، والطبري في تفسيره ٤ / ١٧٤.
(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ٤ / ٢٧٥.