(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) اللقاء المصادفة وهي الاجتماع من غير مواعدة يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته ، وأصل لقوا لقيوا حذف الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو (قالُوا آمَنَّا) أي : كإيمانكم (وَإِذا خَلَوْا) منهم ورجعوا (إِلى شَياطِينِهِمْ) أي : الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ومماثلي الشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وقصدوا بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق ورغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادّعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم أي : نسخر بهم بإظهارنا الإسلام لأنّ المستهزىء بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه فهذا تأكيد لما قبله أو بدل منه لأنّ من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو استئناف فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا : إنا معكم ، إن صح ذلك : فما بالكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان فأجابوا بذلك.
تنبيه : بين سبحانه وتعالى بهذه الآية معاملة المنافقين مع المؤمنين والكفار ، روى الواحديّ وغيره ولكن بسند ضعيف «أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال : مرحبا بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : مرحبا بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم أخذ بيد عليّ رضي الله تعالى عنه فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وختنه» (١) أي : ـ زوج بنته عند العامّة وعند العرب كل من كان من قبل المرأة ـ وكل منهما صحيح هنا ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. وما صدّر به قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) فمسوق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير.
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة بسيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلا له في القدر ومثل هذا يسمى مشاكلة أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو يعاملهم معاملة المستهزىء ، أما في الدنيا فبإجراء أحكام الإسلام عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة مع التمادي في الطغيان ، وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين ، ٣٤] وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أنه تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين أن يعارضوهم وأنّ استهزاءهم لا يبالي به لحقارتهم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أي : في ضلالاتهم (يَعْمَهُونَ) يتردّدون متحيرين ، والطغيان بالضم والكسر تجاوز الحدّ في العصيان والغلوّ في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه ، قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) [الحاقة ، ١١] قال البيضاوي : والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر يقال : رجل عامه وعمه وأرض عمهاء لا منار لها اه. وظاهر كلامه اختصاص
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ، في تفسير الآية ١٣ من سورة البقرة.