(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) بمعنى الدعاء أي : لا سمعت بصمم أو بموت ، أو بمعنى اسمع منا ولا نسمع منك ، أو بمعنى اسمع غير مسمع كلاما ترضاه (وَ) يقولون له : (راعِنا) يريدون به النسبة إلى الرعونة وقد نهى عن خطابه صلىاللهعليهوسلم بها وهي كلمة سب بلغتهم (لَيًّا) أي : تحريفا (بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي : يحرفون ما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير نفاقا (وَطَعْناً) أي : قدحا (فِي الدِّينِ) أي : الإسلام (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) بدل وعصينا (وَاسْمَعْ) أي : فقط (وَانْظُرْنا) أي : انظر إلينا بدل راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما قالوه (وَأَقْوَمَ) أي : أعدل وأصوب (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي : أبعدهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويجوز أن يراد بالقلة العدم أو إلا نفرا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يخاطب اليهود (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) أي : القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي : التوراة وذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وأصحابه وكعب بن أسد وقال : «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» (١) قالوا : ما نعرف ذلك وانصرفوا على الكفر فنزلت (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي : فنجعلها كالأقفاء مطموسة مثلها أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة.
روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحوّل وجهي في قفاي وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية.
فإن قيل : قد أوعدهم الله بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟ أجيب : بأنّ هذا الوعيد باق ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة ، أو أنّ هذا كان وعيدا بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به في القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : نطمس وجوها أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) أي : نمسخهم قردة وخنازير (كَما لَعَنَّا) أي : مسخنا (أَصْحابَ السَّبْتِ) منهم قردة وخنازير (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أي : قضاؤه (مَفْعُولاً) أي : نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.
(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أي : لا يغفر الإشراك به ، قال عمر رضي الله تعالى عنهما : لما نزل (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر ، ٥٣] قالوا : يا رسول الله والشرك فنزلت. ولما أخبر بعدله أخبر تعالى بفضله فقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) الأمر الكبير العظيم من كل معصية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة سواء أتاب فاعلها أم لا ، ورهب بقوله : إعلاما بأنه مختار لا يجب عليه شيء (لِمَنْ يَشاءُ.)
وقال الكلبيّ : نزلت هذه الآية في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة وذهب
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه.