بالرأي (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : تأويلكم بلا رد أو عاقبة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : التوراة والإنجيل ، قال الأصبهاني : ولا يستعمل أي : الزعم في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق يقال : زعم فلان كذا إذا شك فيه فلا يعرف كذبه أو صدقه (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) أي : الباطل المغرق في البطلان ، وقيل : هو كعب بن الأشرف.
روي عن ابن عباس أنّ بشرا المنافق خاصم يهوديا فقال اليهودي : ننطلق إلى محمد صلىاللهعليهوسلم وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : انطلق بنا إلى عمر رضي الله تعالى عنه فأتيا عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ فقال : نعم فقال لهما عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية ، وقال جبريل عليهالسلام : إنّ عمر فرق بين الحق والباطل فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أنت الفاروق» (١).
والطاغوت على هذا هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان ، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه (وَقَدْ) أي : والحال إنهم قد (أُمِرُوا) ممن له الأمر في كل ما أنزل إليك من كتاب ما قبله (أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي : بالشيطان فمتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين كافرين بالله وهو معنى قوله : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) أي : بإرادتهم ذلك التحاكم إليه (أَنْ يُضِلَّهُمْ) أي : المتحاكم إليه (ضَلالاً بَعِيداً) أي : بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى.
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : من أي قائل كان ، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بالكسر وتقدّم ذكر الإدغام لأبي عمرو (تَعالَوْا) أي : أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) أي : الذي عنده كل شيء (وَإِلَى الرَّسُولِ) أي : الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع إنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ) أي : يعرضون (عَنْكَ) إلى غيرك وأكد ذلك بقوله : (صُدُوداً) أي : هو أعلى طبقات الصدود.
(فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : عقوبة كقتل عمر رضي الله تعالى عنه المنافق (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضا بحكمك من الكفر بغير ذلك أي : أيقدرون على الإعراض والفرار منها؟ لا وتم الكلام ههنا ، وقوله تعالى : (ثُمَّ جاؤُكَ) أي : حين يصابون للاعتذار معطوف على يصدون وما بينهما اعتراض (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ) أي : ما (أَرَدْنا) أي : بالمحاكمة إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) أي : صلحا (وَتَوْفِيقاً) أي : تأليفا بين
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٥ / ٢٦٤ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٤٥.