لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))
(وَإِذا كُنْتَ) أي : يا محمد حاضرا (فِيهِمْ) أي : وأنتم تخافون العدوّ (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه صلىاللهعليهوسلم كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره.
روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع :
الأوّل : إذا كان العدو في جهة القبلة ولا ساتر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثان ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية ، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع ، روى هذا النوع مسلم ، وقد صلاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعسفان ، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية.
والنوع الثاني : إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر ، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي : وتتأخر طائفة (وَلْيَأْخُذُوا) أي : الطائفة التي قامت معك (أَسْلِحَتَهُمْ) معهم (فَإِذا سَجَدُوا) أي : صلوا (فَلْيَكُونُوا) أي : هذه الطائفة الأخرى (مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) تحرس (لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) معهم إلى أن يقضوا الصلاة «وقد فعل صلىاللهعليهوسلم ذلك ببطن نخل» (١) ، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين ، وقلة عدوّهم ، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة.
فإن قيل : أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز ، وأخذ الأسلحة حقيقة ، فلا يجمع بينهما أجيب : بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضا تنزيلا له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية ، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة ، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه.
فإن قيل : لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى؟ أجيب : بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى.
والنوع الثالث : صلاة ذات الرقاع رواها الشيخان أيضا ، وهي والعدوّ في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر أن تقف فرقة في وجه العدوّ ، ويصلي الإمام بفرقة ركعة ، ثم عند قيامه للثانية تفارقه وتتم بقية صلاتها ، وتقف في وجه العدوّ ، وتجيء تلك والإمام ينتظر لها فيصلي بها ثانية ، فإذا جلس للتشهد قامت وأتت بركعة وتلحقه ، ويسلم بها ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة ،
__________________
(١) انظر البخاري في التفسير حديث ٤٥٣٥ ، ومسلم في المسافرين حديث ٨٤٣.