أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يوشك أن ينزل فيكم عيسى ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون» (١).
قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه ، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ؛ لأنّ قوله : ثم يلبث الناس بعده أي : بعد موته فلا معارضة ، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافا إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وثلاثين سنة على المشهور.
وروى عكرمة : إن الهاء في قوله تعالى : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) كناية عن محمد صلىاللهعليهوسلم يقول : لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : الهاء راجعة إلى الله عزوجل يقول : وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عزوجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أي : عيسى على القول الأوّل (عَلَيْهِمْ شَهِيداً) إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبرا عنه : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة ، ١١٧]. وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء ، ٤١].
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم ، وقولهم : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النساء ، ١٥٧] (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي : كان وقع إحلالها لهم في التوراة ، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام ، ١٤٦] الآية (وَبِصَدِّهِمْ) أي : الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : دينه ، وقوله تعالى : (كَثِيراً) صفة مصدر محذوف أي : صدّا كثيرا بالإضلال عن الطريق ، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ) أي : والحال إنهم قد (نُهُوا عَنْهُ) في التوراة ، فكان محرما عليهم كما هو محرّم علينا ؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه ، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي : من الرشا في الحكم والمآكل أي : التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات ، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالا لهم قال تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام ، ١٤٦] (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي : مؤلما دون من تاب وآمن.
ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) أي : الثابتون المتمكنون (فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) أي : من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي : من
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٤٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٤٢.