وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المسلمين المهاجرين؟ فقال عبد الله له : يا هذا ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم قال : فأنت غنيّ من الأغنياء قال : ألك خادم؟ قال : نعم قال : أنت من الملوك. وقال السديّ : وجعلكم أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم ، وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه نهر جار فهو ملك.
وثالثها : قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وذلك ، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام ، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم ، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه ، وقيل : المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ : إن جعلت العالمين عامّا وجب تخصيص «ما» لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف «ما» باقية على عمومها إذ لا محذور.
ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) أي : المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد : هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ ، وقال قتادة : هي الشأم كلها (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن وقال السديّ : أمركم بدخولها.
فإن قيل : على القول الأوّل : كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ؟) أجيب : بأجوبة أوّلها : قال ابن عباس : إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم ، ثانيها : اللفظ وإن كان عاما لكن المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم ، ثالثها : إنّ الوعد بقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط ، رابعها : إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي : ولا ترجعوا مدبرين خوفا من العدوّ (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : في سعيكم ، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم.
قال الكلبيّ : صعد إبراهيم عليهالسلام جبل لبنان فقيل له : انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك ، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد ، ثم بعث موسى عليهالسلام اثني عشر نقيبا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساما عظيمة ، قال ابن عادل : قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها ، من بساتينه ، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيبا للملك : هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم ، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليهالسلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما سهّلا الأمر وقالا : هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة ، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية