شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة ، ١٤٣] وإذا نظرت مكاتبات النبيّ صلىاللهعليهوسلم ازددت بصيرة في صدق هذه الآية فإنه ما كاتب نصرانيا إلا آمن أو كان لينا ـ ولو لم يسلم ـ كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية في الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلىاللهعليهوسلم ولم يجز رسوله بشيء قال البقاعي : السرّ في ذلك أنه لما كان عيسى عليه الصلاة والسّلام أقرب الأنبياء زمنا من زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان المنتمون إليه ـ ولو كانوا كفرة ـ أقرب الأمم مودّة لاتباع النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
وقالوا في جواب من عيّرهم بالإسلام من اليهود : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) وهو القرآن لا مانع لنا من الإيمان مع وجود مقتضيه وقوله تعالى : (وَنَطْمَعُ) معطوف على نؤمن (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) أي : المؤمنين الجنة.
(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أي : جعل ثوابهم على هذا القول المسند إلى خلوص النية الناشىء عن حسن الطوية (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ) أي : الجزاء العظيم (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي : بالإيمان.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : الذين لا ينفكون عنها لا غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم وعطف التكذيب بآيات الله على الكفر وهو ضرب منه لأنّ القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدّقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) أي : لا تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غير ذلك (طَيِّباتِ) أي : مستلذات (ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) كمنع التحريم أي : لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا (وَلا تَعْتَدُوا) حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ولا للمفرّطين فيه الذين يحللون ما حرمت أن يفعلوا فعل المحرّم من المنع وفعل المحلل من التناول فالآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرّم داعية إلى القصد بينهما.
روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم : أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟» قالوا : بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني لم أومر بذلك» ثم قال : «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١) ثم جمع الناس
__________________
(١) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥٠٦٣ ، ومسلم في النكاح حديث ١٤٠١ ، والنسائي في النكاح حديث ٣٢١٧.