آية الرحمن وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله : (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) أي : خلق (لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله : لكم ، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ، ٥] (قَدْ فَصَّلْنَا) أي : بينا (الْآياتِ) أي : الدالات على قدرتنا وتوحيدنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي : يتدبرون فإنهم المنتفعون به
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي : خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : من آدم عليه الصلاة والسّلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضا لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليهالسلام (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي : فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء ، قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس : هل تزوّجت؟ قلت : لا ، قال : أما إنه ما كان مستودعا في ظهرك فيسخرجه الله عزوجل أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة : حسنت مستقرّا وفي صفة النار وساءت مستقرّا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي : فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض ، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، والباقون بالنصب (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي : يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : مطرا وهو من السحاب أو من جانب السماء ، وقيل : إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي : بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسببات صنوف متفرّقة كما قال تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ، ٤] (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي : من النبات أو الماء (خَضِراً) أي : شيئا أخضر يقال : أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي : الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أي : يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة والشعير والأرز والذرة وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم ويبدل منه (مِنْ طَلْعِها) وهو أوّل ما يخرج منها والمبتدأ (قِنْوانٌ) أي : عراجين (دانِيَةٌ) أي : قريبة من التناول يتناولها النائم والقاعد أو قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها وهي البعيدة لدلالتها عليها كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ، ٨١] أي : والبرد واكتفى بذكر أحدهما وحكمة تخضيص دانية بالذكر زيادة النعمة فيها وقوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ) عطف على نبات كلّ شيء أي : وأخرجنا به بساتين (مِنْ أَعْنابٍ) وقوله تعالى :