الحياة ، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالا ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتا أي : جهالا فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها ، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [الجاثية ، ٢٦] ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد ، ١٧] ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام ، ١٢٢] وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى ، ثم أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي : لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة ، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة ، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى : (جَمِيعاً) حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالا من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم ؛ ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إلى خلقها بإرادته ، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل : استوى استولى كما قيل (١) :
قد استوى بشر على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس ، وقيل : لأنّ السماء جمع سماءة أي : جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت ، قال البيضاويّ : وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي :
__________________
(١) الرجز للأخطل في تاج العروس (سوا) ، وليس في ديوانه وبلا نسبة في لسان العرب (سوا) ، ورصف المباني ص ٣٧٢.