وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر والباقون بالنصب عطفا على السموات ، ومسخرات منصوب بالكسرة (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) جميعا (وَالْأَمْرُ) كله فإنه الموجد والمتصرّف في ذلك ، وفي هذا ردّ على من يقول : إنّ الشمس والقمر والكواكب تخلق له الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه ، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق فقال : إنّ الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر أي : إن جعل الأمر وهو كلامه من جملة ما خلقه فهو كفر لأنّ المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : تعالى بالوحدانية وتعظم بالتفرّد في الربوبية ، قال البيضاوي : وتحقيق الآية ـ والله أعلم ـ أنّ الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين الله تعالى لهم أنّ المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيئات المختلفة ، ثم قسمها بصور نوعية متضادّة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت ، ٩] أي : ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة أي : وهي النبات والحيوان والمعدن بتركيب موادها أوّلا وتصويرها ثانيا كما قال تعالى بعد قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ٩ ، ١٠] أي : مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السموات لقوله تعالى في سورة السجدة : [٤] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ،) ثم أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى :
(ادْعُوا رَبَّكُمْ) لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى : (تَضَرُّعاً) أي : ادعوا ربكم تذللا واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال : ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع (وَخُفْيَةً) أي : سرّا في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفيا لهذه الآية ، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : «كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم» قال أبو موسى : وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي ، فقال : «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قلت : بلى ، قال : «لا حول ولا قوّة إلا بالله» (١) ، وقال الحسن : بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفا ولقد كان
__________________
(١) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٢٠٥ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٧٠٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٥٢٦ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٣٧٤.