تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن.
ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وما جرى لهم مع أممهم فقال : (لَقَدْ) جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد (أَرْسَلْنا نُوحاً) عليهالسلام (إِلى قَوْمِهِ) ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليهالسلام وهو أوّل نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نجارا بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : وهو ابن أربعين سنة ، وقيل : وهو ابن مائة سنة ، وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة ، وقال ابن عباس : سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه ، واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك ، وقيل : لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان ، وقيل : لأنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه : أعبتني ، أو أعبت الكلب. وفي ذكر القصص تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم لأنه لم يكن إعراض قومه عن قبول الحق فقط بل قد أعرض عنه غالب الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت للخسار والهلاك في الدنيا والآخرة والعذاب الأليم فمن كذب محمدا صلىاللهعليهوسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة وفيه دليل على صحة نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحدا من علماء زمانه وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد فعلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلا واضحا وبرهانا قاطعا على صحة نبوّته صلىاللهعليهوسلم (فَقالَ) نوح حال إرساله لقومه (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : اعبدوه وحده لقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه الذي يستحق العبادة لا غيره. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء على أنه صفة لإله والباقون برفعهما على البدل من محله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان وإهلاكهم فيه ، وقال : أخاف ، على الشك وإن كان يقينا من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي : الأشراف منهم فإنهم يملؤون العيون منظرا (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) أي : خطأ وزوال عن الحق (مُبِينٍ) أي : بين.
(قالَ) نوح مجيبا لهم : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي : ليس بي شيء مما تظنون من الضلال.
فإن قيل : لم لم يقل ليس بي ضلال كما قالوا؟ أجيب : بأنّ الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كما لو قيل : ألك ثمر فقلت : ما لي ثمرة فقد بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وقوله تعالى : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه كأنه قال : ولكني على هدى في الغاية لأني رسول الله.
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه ،