آباؤهم ومعنى المجيء في أجئتنا إما لأن هودا كان معتزلا عن قومه كما كان يفعل النبيّ صلىاللهعليهوسلم بحراء قبل البعثة فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم أو يريدون به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك أو أن المقصود على المجاز كما تقول : ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي : من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي : في قولك : إني رسول الله.
(قالَ) هود مجيبا لهم (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي : نزل عليكم (مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) عقاب (وَغَضَبٌ) أي : سخط (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) أي : وضعتموها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي : من عند أنفسكم ، والاستفهام للإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة فعبدوها من دون الله (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) أي : بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) أي : حجة وبرهان لأنّ المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وإنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إمّا بإنزال آية أو نصب دليل (فَانْتَظِرُوا) أي : نزول العذاب بسبب تكذيبكم لي (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ذلك فأرسلت عليهم الريح العقيم.
(فَأَنْجَيْناهُ) أي : هودا (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : من المؤمنين (بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : استأصلناهم وقوله تعالى : (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على كذبوا. روي أنّ قوم هود كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هودا فكذبوا وازدادوا عتوا فأمسك الله تعالى القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس حينئذ مسلمهم وكافرهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله تعالى الفرج فجهزوا إلى الحرم قيل ابن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان بمكة إذ ذاك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة فتسميتهما جرادتين فيه تغليب والقينة : الأمة مغنية أو غير مغنية فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحى أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله فعلم القينتين معاوية (١) :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
والهينمة الصوت الخفي أي : أخف الدعاء.
لعل الله يمنحنا غماما
والغمام هنا المطر.
فيسقي أرض عاد إن عادا |
|
قد أمسوا لا يبينون الكلاما |
من العطش الشديد فليس نرجو |
|
به الشيخ الكبير ولا الغلاما |
فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ
__________________
(١) الأبيات من الوافر ، وهي بلا نسبة في كتاب العين ٤ / ٦٠.