(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) فيعلموا (ما بِصاحِبِهِمْ) محمد صلىاللهعليهوسلم (مِنْ جِنَّةٍ) أي : جنون.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم : إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح ، فنزلت ، ومعنى : يهوّت : يصوّت ، يقال : هيت به وهوت به أي : صاح قاله الجوهريّ ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم خالفهم في الأقوال والأفعال ؛ لأنه كان معرضا عن الدنيا ولذاتها مقبلا على الآخرة ونعيمها مشتغلا بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلا ونهارا من غير ملال ولا ضجر ، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون ، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى : (إِنْ) أي : ما (هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) أي : نظر اعتبار واستدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ملكهما البالغ (وَما) أي : وفيما (خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها ؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ، وقوله تعالى : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ) أي : دنا (أَجَلُهُمْ) عطف على ملكوت ، وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافا للبيضاوي قال التفتازانيّ : لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها ، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها ، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب ، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار ، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) أي : كتاب (بَعْدَهُ) أي : الكتاب الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم (يُؤْمِنُونَ) أي : يصدّقون ، وليس بعد محمد صلىاللهعليهوسلم نبيّ ولا بعد كتابه كتاب ؛ لأنه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعده صلىاللهعليهوسلم.
فإن قيل : قوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة. أجيب : من جهة أهل السنة : بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها.
ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) بوجه من الوجوه أي : إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا (وَيَذَرُهُمْ) أي : يتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) أي : ضلالهم وتماديهم في الكفر (يَعْمَهُونَ) أي : يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلا ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : «ونذرهم» بالنون والباقون بالياء ، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه : إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى : (فَلا هادِيَ لَهُ ؛) لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط ، ورفعها الباقون استئنافا ، وهو مقطوع عما قبله.
ولما بيّن تعالى التوحيد والنبوّة والقضاء والقدر أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن مبينا ما اشتمل عليه عامة الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في أشراك الشبه بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد سؤال استهزاء (عَنِ السَّاعَةِ) أي : عن وقتها ، واختلفوا في ذلك السائل ، فقال ابن عباس : إنّ قوما من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيا كما تقول ، فإنا نعلم متى هي ، فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن وقتادة : إنّ قريشا قالوا : يا محمد بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟ والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، وسميت