فلا يأمرني إلا بخير الثالث : أنّ الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم والمراد به غيره أي : وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل ، ٩٨] (إِنَّهُ سَمِيعٌ) للقول (عَلِيمٌ) بالفعل ، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ) أي : أصابهم (طائِفٌ) أي : شيء ألمّ بهم (مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) عقاب الله وثوابه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الحق من غيره ، فيرجعون.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة (وَإِخْوانُهُمْ) أي : وإخوان الشياطين من الكفار (يَمُدُّونَهُمْ) أي : يمدّهم الشياطين (فِي الغَيِ) أي : يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي : لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها ، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين ؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر ، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) أي : أهل مكة (بِآيَةٍ) أي : مما اقترحوها كقولهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء ، ٩٠] (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي : هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه ، فإنهم كانوا يقولون : إنّ هذا الإفك مفترى ، تقول العرب : اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك ، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة؟ قال الله تعالى : (قُلْ :) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي : ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي ، فكل شيء أكرمني به قلته ، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.
ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة ، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة ، فكان طلب الزيادة من باب التعنت ، فذكر في وصف القرآن ألفاظا ثلاثة أوّلها قوله : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : هذا القرآن فيه حجة وبرهان ، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ، ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.
وثانيها : (وَهُدىً) أي : وهو هدى.
وثالثها : (وَرَحْمَةٌ) أي : وهو رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.)
فإن قيل : ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث؟ أجيب : بأنهم متفاوتون في درجات العلوم ، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد ، وهم أصحاب عين اليقين ، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر ، وهم أصحاب علم اليقين ، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين ، وهم أصحاب حق اليقين ، فالقرآن في حق القسم الأوّل ، وهم السابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى ، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) أي : عن الكلام (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره ، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى