فنزلت ، وقيل : شرط رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن كان له غنا ـ وهو بفتح الغين المعجمة والمد النفع ـ أن ينفله فسار شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، ثم طلبوا نفلهم ، وكان المال قليلا ، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردأ أي : عونا لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهم على السواء ، رواه الحاكم في المستدرك ، وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا معاشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإصلاح ذات البين ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنه قال : لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير ، وقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وأتيت به رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستوهبته منه فقال : هذا ليس لي ولا لك اطرحه في القبض ، وهو بفتحتين : ما قبض من الغنائم فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي اذهب فخذه» (١) وقيل : إنها نزلت فيما يصل من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع ، فهو للنبيّ صلىاللهعليهوسلم يصنع فيه ما يشاء.
واختلفوا هل هذه الآية منسوخة أو لا؟ فقال مجاهد وعكرمة : هي منسوخة بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال ، ٤١] الآية فكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فنسخها الله تعالى بالخمس ، وقال بعضهم : هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراما على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم ، وأباحها الله تعالى بهذه الآية لهذه الأمة ، وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا ، ثم نسخت بآية الخمس ، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال لله وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى ، وقد بيّن الله تعالى مصارفها في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية.
فإن قيل : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول؟ أجيب : بأنّ معناه أن حكم الغنيمة مختص بالله ورسوله بأمر الله يقسمها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول صلىاللهعليهوسلم أمر الله تعالى فيها وليس الأمر في قسمها مفوّضا إلى رأي أحد (فَاتَّقُوا اللهَ) بطاعته ، واتركوا مخالفته واتركوا المخاصمة والمنازعة في الغنائم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : وأصلحوا الحال فيما بينكم بالمودّة وترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا ، فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي : الكاملون في الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) أي : وعيده (وَجِلَتْ) أي : خافت وخضعت ورقت (قُلُوبُهُمْ) أي : أنّ المؤمن إنما يكون مؤمنا كاملا إذا كان خائفا من الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المعارج ، ٢٧] وقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون ، ٢].
فإن قيل : إنه تعالى قال هنا : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وفي آية أخرى (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد ، ٢٨] فكيف الجمع بينهما؟ أجيب : بأنه لا منافاة بينهما ؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب ، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، وهذا مقام الخوف والرجاء ، وقد
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٧٨.