ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران ، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا ، فقال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : شرك كما قاله ابن عباس ، وقال الربيع : حتى لا يفتن أحدكم عن دينه ؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة ، فافتتن من المسلمين بعضهم ، وأمرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يخرجوا إلى الحبشة ، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم ، فأصاب المؤمنين جهد شديد ، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ) خالصا (لِلَّهِ) تعالى وحده لا يعبد غيره (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : فيجازيهم به.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي : ناصركم ومتولي أموركم (نِعْمَ الْمَوْلى) هو فإنه لا يضيع من تولاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : الناصر ، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمنا من الآفات مصونا عن المخالفات.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) أي : أخذتم من الكفار الحربيين (مِنْ شَيْءٍ) مما يقع عليه اسم شيء مما هو لهم ولو اختصاصا (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ.)
واعلم أنّ الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من الحربيين والصحيح أنهما مختلفان ، فالفيء ما حصل لنا مما هو لهم بلا إيجاف كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم ، وتركه مرتدّ وكافر معصوم بلا وارث ، وكذا الفاضل عن وارث له غير جائز وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [الحشر ، ٧] ، وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا منهم مما هو لهم بإيجاف أو سرقة أو التقاط ، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ، ولو قبل شهر السلاح ، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة ، ولم تحلّ الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جمعوه ، فتأتي نار من السماء تأخذه ، ثم أحلت للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وكانت في صدر الإسلام له خاصة ؛ لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم ، ثم نسخ ذلك واستقل الأمر على أنها تجعل خمسة أقسام متساوية ، ويؤخذ خمس رقاع ويكتب على واحدة لله أو للمصالح وعلى أربع للغانمين ، ثم تدرج في بنادق مستوية ، ويخرج لكل خمس رقعة ، فما خرج لله أو للمصالح جعل بين أهل الخمس على خمسة أصناف ، وهو النبيّ صلىاللهعليهوسلم ومن معه وذكر الله تعالى في الآية للتبرك ، وأما ما كان له صلىاللهعليهوسلم فهو لمصالح المسلمين كسد الثغور وأرزاق علماء بعلوم تتعلق بمصالحنا كتفسير وفقه وحديث ، والصنف الثاني : ما ذكره الله تعالى بقوله : (وَلِذِي الْقُرْبى) أي : قرابة النبيّ صلىاللهعليهوسلم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم لاقتصاره صلىاللهعليهوسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عمهم نوفل وعبد شمس له لقوله صلىاللهعليهوسلم : «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه» (١) فيعطون ولو أغنياء ، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث ؛ لأنه عطية من الله تعالى تستحق بقرابة الأب كالإرث ، فلا يعطي أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئا ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أنّ أمّ كل واحد منهما كانت هاشمية.
والصنف الثالث : ما ذكره الله تعالى بقوله : (وَالْيَتامى) اليتيم صغير ولو أنثى لخبر : «لا يتم
__________________
(١) أخرجه البخاري في الخمس حديث ٣١٤٠ ، وأبو داود في الخراج حديث ٢٩٧٨ ، والنسائي في الفيء حديث ٤١٣٧.