أي : كافيك (اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) في سائر أيامك ، فإن أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمرا إلهيا وتدبيرا علويا ، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل (وَ) أيدك (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : الأنصار.
فإن قيل : فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره ، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب : بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائما لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة ، والثاني : ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى : (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ،) والثاني : هو المراد من قوله تعالى : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) والله تعالى هو مسبب الأسباب ، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى :
(وَأَلَّفَ) أي : جمع (بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وذلك إنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة ، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلا من قبيلة لطم لطمة واحدة ، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه ، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا دعاة ، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية ، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء (إِنَّهُ) أي : الله تعالى (عَزِيزٌ) أي : غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد (حَكِيمٌ) لا يخرج شيء عن حكمته ، وقيل : الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك ، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصارا ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ) أي : كافيك (اللهُ.)
فإن قيل : هذا مكرّر ، أجيب : بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات ، فلا يلزم حصول التكرار ؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم ، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر (١) :
فحسبك والضحاك سيف مهند
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه ، والمعنى : كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصرا ، أو رفع عطفا على اسم الله تعالى أي : كفاك الله وكفى المؤمنين ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وعن سعيد بن جبير أسلم مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : حثهم (عَلَى الْقِتالِ) للكفار والتحريض في اللغة ،
__________________
(١) صدره :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
والبيت من الطويل ، وهو لجرير في ذيل الأمالي ص ١٤٠ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٨١ ، وسمط اللآلي ص ٨٩٩ ، ولسان العرب (حسب) ، (هيج) ، (عصا).