الأذان للصلاة ، فإنه إعلام بوقتها وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين.
فإن قيل : لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس أجيب : بأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
(يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) أي : يوم عيد النحر لأنّ فيه معظم أفعاله من طواف ونحر وحلق ورمي يقع فيه ، ولأنّ الإعلام كان فيه. وروي أنه صلىاللهعليهوسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال : «أي يوم هذا؟» فقالوا : يوم النحر فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» (١).
وروي أن عليا رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا فخل سبيلها ، وقيل : يوم عرفة لقوله صلىاللهعليهوسلم : «الحج عرفة» (٢) ، وقيل : أيام منى كلها ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقوله يوم صفين ويوم الجمل ؛ لأنّ الحرب دامت في هذه الأيام ويطلق عليها يوم واحد. وقيل : هو الذي حج فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده ووصف الحج بالأكبر ؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج. وقيل : وصف بذلك لموافقته حج النبيّ صلىاللهعليهوسلم حجة الوداع ، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة وودّع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم. وقيل : وصف بذلك لاجتماع أعياد الملل في ذلك اليوم. وقيل : لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. وقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : من عهودهم فيه حذف تقديره وأذان من الله ورسوله بأنّ الله بريء من المشركين ، وإنما حذف الجار لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى : (وَرَسُولِهِ) مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره أي : ورسوله.
كذلك وحكي أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرأ : ورسوله بالجرّ ، فقال : إن كان الله بريء من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه ، فحكى الأعرابيّ الواقعة فحينئذ أمر عمر بتعليم العربية.
وحكي أيضا أنّ أعرابيا قدم في زمن عمر ، فقال : من يقرئني مما أنزل الله تعالى على محمد صلىاللهعليهوسلم فأقرأه رجل براءة ، فقال : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بالجرّ ، فقال الأعرابيّ : أوقد برىء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا بريء منه ، فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه فسأله فأخبره الأعرابيّ بذلك ، فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابيّ فقال : فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بالرفع ، فقال : وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه ، فأمر عمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي : عن الكفر والغدر (فَهُوَ) أي : ذلك الأمر العظيم وهو المتاب (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : من الإقامة على الشرك ، وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
__________________
(١) أخرجه البخاري في الحج باب ١٣٢ ، وتفسير سورة ٩ باب ٤ ، وأبو داود في المناسك باب ٦٦ ، والترمذي في الحج باب ١١٠ وابن ماجه في المناسك باب ٧٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ٤١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في المناسك باب ٦٩ ، والترمذي في الحج حديث ٨٨٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٣٠١٦ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٣٠١٥.