مُعْجِزِي اللهِ) وذلك وعيد عظيم وإعلام بأنّ الله تعالى قادر على إنزال أشدّ العذاب بهم كما قال تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ولفظ البشارة هنا ورد على سبيل الإخبار أو على سبيل الاستهزاء كما يقال محبتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين وهم بنو ضمرة حيّ من كنانة أمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ، وكان قد بقي من مدّتهم تسعة أشهر ، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا كما قال تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي : من عهودكم التي عاهدتموهم عليها (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي : ولم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من عدوّكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي : إلى انقضائها ، ولا تجروهم مجرى الناكثين. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.
(فَإِذَا انْسَلَخَ) أي : انقضى وخرج (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم ، وضربت أجلا لسياحتهم والتعريف مثله في (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل ، ١٥ ، ١٦] والمراد بكونها حرما أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها. وقيل : هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، قال البيضاويّ : وهذا يخل بالنظم أي : نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحسانا وكرما (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره. (وَخُذُوهُمْ) أي : بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) أي : لأجلهم خاصة ، فإن ذلك من أفضل العبادات (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي : طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد. وانتصاب كل على الظرفية كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف ، ١٦] وقيل : بنزع الخافض ، قال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. (فَإِنْ تابُوا) أي : عن الكفر بالإيمان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم ، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق. (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك ، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ؛ لأنه إن كان جاحدا لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهرا وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لما توفي النبيّ صلىاللهعليهوسلم واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله» فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي رواية : عقالا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقاتلهم على منعها ، قال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال ، فعرفت أنه الحق (١). (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي : بليغ
__________________
(١) أخرجه البخاري في الزكاة حديث ١٤٠٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠ ، وأبو داود في الزكاة حديث ١٥٥٦ ، والترمذي في الإيمان حديث ٢٦٠٧ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٤٤٣.