فإن قيل : الموصوفون بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضا الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله : وأكثرهم فائدة؟ أجيب : بأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه ، فلا ينقض العهد ، وقد يكون فاسقا خبيث النفس في دينه فينقضه ، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد ، وكان في المشركين من وفى بعهده ، فلهذا قال : وأكثرهم أي : إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
(اشْتَرَوْا) أي : استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) أي : القرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا يسيرا من الدنيا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر ، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ صلىاللهعليهوسلم فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة (فَصَدُّوا) أي : فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا (عَنْ سَبِيلِهِ) أي : منعوا الناس من الدخول في دينه (إِنَّهُمْ ساءَ) أي : بئس (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : عملهم هذا ، وما دل عليه قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فهو تفسير لا تكرير ، وقيل : الأوّل عام في المنافقين ، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (وَأُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء من كل خير (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد.
ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) أي : رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي : فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين.
(وَإِنْ نَكَثُوا) أي : نقضوا (أَيْمانَهُمْ) أي : عهودهم. (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي : وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي : الكفار بأسرهم ، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر ؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة ، وقال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش ، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون ، وقول البيضاوي : والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء ، وهو مردود ، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين ، فبعضهم على جعلها بين بين ، وبعضهم على قلبها ياء خالصة ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي : لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل ، والباقون بالفتح جمع يمين أي : لا أيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان ، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا ، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي : إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمهالله تعالى بهذا على أنّ