الْمُهْتَدِينَ) تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم والانتفاع بأعمالهم التي قد استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، فإنه تعالى بيّن أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليه الخشية من الله تعالى ، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائرا بين لعل وعسى ، فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بخير من عند الله ومنع للمؤمنين من أن يغترّوا بأحوالهم ويتكلوا عليها.
وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أقوالا ، فعن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال العباس حين أسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام وبالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ، فنزلت. وقيل : إن المشركين قالوا لليهود : نحن علينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ، فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل ، فنزلت. وقيل : إنّ عليا قال للعباس رضي الله عنهما : يا عم ، ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا» (١) وكان العباس عم النبيّ صلىاللهعليهوسلم بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره صلىاللهعليهوسلم على ذلك.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم جاء السقاية فاستسقى ، فقال العباس رضي الله عنه لابنه الفضل : يا فضل ، اذهب إلى أمّك فأت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشراب من عندها ، فقال له صلىاللهعليهوسلم : «اسقني» قال : يا رسول الله يجعلون أيديهم فيه ، قال : «اسقني» فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها ، فقال : «اعملوا فإنكم على عمل صالح» (٢). وعن أبيّ بن عبد الله المزني رضي الله عنه قال : كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة ، فأتاه أعرابي ، فقال : مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل ، إنما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشربه وسقى فضله أسامة وقال : أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوه ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والنبيذ : تمر ينقع في الماء غدوة وهو حلال ، فإن غلا وخمر حرم.
تنبيه : السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ، فلا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي : لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج
__________________
(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٤ / ٦٥ ، والطبري في تفسيره ١٠ / ٦٨ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٧٤.
(٢) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٦٣٥.