المقالة (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أي : أقرباؤكم مأخوذ من العشرة ، وقيل : من العشرة ، فإن العشرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي : اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي : عدم نفاقها بفراقكم لها (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي : تستوطنونها راضين بسكناها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : الهجرة إلى الله ورسوله (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فقعدتم لأجل ذلك عن الهجرة والجهاد ، أي : إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ، ومن المجاهدة في سبيل الله (فَتَرَبَّصُوا) أي : انتظروا متربصين وهو تهديد بليغ (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.) قال مجاهد بقضائه أي : عقوبة عاجلة أو آجلة ، وقال مقاتل بفتح مكة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ) أي : لا يخلق الهداية في قلوب (الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن طاعته ، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) النصرة المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم (فِي مَواطِنَ) أي : أماكن للحرب (كَثِيرَةٍ) كبدر وقريظة والنضير ، والمراد بذلك غزواته صلىاللهعليهوسلم وسراياه وبعوثه ، وكانت غزواته صلىاللهعليهوسلم على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منها ، وأمّا جميع غزواته وسراياه وبعوثه فقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون (وَيَوْمَ) أي : واذكر يوم (حُنَيْنٍ) وهو واد بين مكة والطائف أي : يوم قتالكم فيه هوازن وقوله تعالى : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من يوم حنين ، وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما فتح مكة وقد بقي من شهر رمضان أيام ، وخرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف ، واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ستة عشر ألفا. وقال الكلبيّ : كانوا عشرة آلاف ، وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفا ، عشرة آلاف الذين حضروا فتح مكة ، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا ، وبالجملة كانوا عددا كثيرا ، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم ، فساء رسول الله صلىاللهعليهوسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وقيل : قائلها أبو بكر رضي الله عنه ، وقيل : رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهذا القول بعيد جدا ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم كان في أحواله كلها متوكلا على الله تعالى منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم المشركون وتخلوا عن الذراري ثم تنادوا : يا حماة السوادة اذكروا الفضائل فتراجعوا وانكشف المسلمون حتى بلغ منهزمهم مكة وبقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام بغلته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم على تناهي شجاعته قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان ، قال البراء : والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله صلىاللهعليهوسلم دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول (١) :
أنا النبيّ لا كذب |
|
أنا ابن عبد المطلب |
__________________
(١) الرجز لرسول الله في كتاب العين ٦ / ٦٥ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٦١١.