مراعاة الوقت الذي يحلون إليه الأشهر الحرم (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) قال ابن عباس : زين لهم الشيطان هذا العمل حتى حسبوا هذا القبيح حسنا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي : هداية موصلة إلى الاهتداء لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار ، ولما رجع النبيّ صلىاللهعليهوسلم من الطائف إلى المدينة وحث على غزوة تبوك وكان ذلك الوقت زمان عسرة وشدّة حرّ وطابت ثمار المدينة ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز جلا للناس أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فنزل :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) بإدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل إذ أصله تثاقلتم ومعناه تباطأتم وملتم عن الجهاد (إِلَى الْأَرْضِ) والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ ، قال المحققون وإنما تثاقل الناس من وجوه : الأوّل : شدّة الزمان في الصيف والقحط ، والثاني : بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به عادتهم في سائر الغزوات ، والثالث : إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت ، والرابع شدّة الحرّ في ذلك الوقت ثم قال لهم الله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وغرورها (مِنَ الْآخِرَةِ) بدل الآخرة ونعيمها (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي) جنب متاع (الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي : حقير لأنّ متاع الدنيا يفقد عن قريب ونعيم الآخرة باق على الدوام فلهذا السبب كان متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلا وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأنّ الله تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجبا لما عاتبهم الله على التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى :
(إِلَّا) أي : بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين (تَنْفِرُوا) أي : تخرجوا مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم للجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي : مؤلما في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو ، وقيل : باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي : يأت بهم بدلكم قال ابن عباس : هم التابعون وقال سعيد بن جبير : أبناء فارس ، وقال أبو روق : هم أهل اليمن ، قال الرازي : وهذه الوجوه ليست تفسيرا للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي : لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل : الضمير راجع إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم أي : ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي : محمدا صلىاللهعليهوسلم أيها المؤمنون (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) فإنه المتكفل بنصرة رسوله صلىاللهعليهوسلم في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره (إِذْ) أي : حين (أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة حين مكروا به حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي : أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى : (إِذْ) بدل من إذ قبله (هُما فِي الْغارِ) أي : غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على