مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى : (إِذْ) بدل ثان (يَقُولُ) صلىاللهعليهوسلم (لِصاحِبِهِ) أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقا بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا (لا تَحْزَنْ) والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولا يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما لك» فقال : بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له صلىاللهعليهوسلم : «لا تحزن» (إِنَّ اللهَ مَعَنا) فقال له أبو بكر : وإنّ الله لمعنا فقال الرسول صلىاللهعليهوسلم : «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه.
وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسّلام : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (١).
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال صلىاللهعليهوسلم : «اللهمّ أعم أبصارهم» (٢) فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحدا ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
تنبيه : دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلو لا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تحزن إنّ الله معنا» (٣) ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك صلىاللهعليهوسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفا ومنها أن قوله : «لا تحزن» نهى عن الحزن مطلقا والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول لأبي بكر : «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» (٤) قال الحسن بن الفضل : من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا واختلف في عود الضمير في قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي : طمأنينته (عَلَيْهِ) هل هو للنبيّ صلىاللهعليهوسلم أو لأبي بكر رضي الله عنه؟ رجح الثاني لوجوه : الأوّل : أن الضمير
__________________
(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦٥٣ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٨١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٩٦.
(٢) أخرجه حجر في الكاف الشافي في تخريج أحاديث الكشاف ٧٦.
(٣) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦١٥ ، ومسلم في الزهد حديث ٢٠٠٩.
(٤) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٦٧٠.