كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه وقال : استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل : إنك عليل صاحب مرض فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أعليّ أن أنفر قال : «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل (١)» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه صلىاللهعليهوسلم فنزل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور ، ٦١] أي : فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس : نسخت بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) [التوبة ، ٩١] الآية ، وقال السدي : لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) وقال عطاء الخراساني : منسوخة بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة ، ١٢٢] وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أمر إيجاب للجهاد أي : ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة.
(ذلِكُمْ) أي : هذا الأمر العظيم (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل ، أي : عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال صلىاللهعليهوسلم لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال : «هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر» (٢) ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق.
ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك : (لَوْ كانَ) ما تدعوهم إليه (عَرَضاً) أي : متاعا من الدينا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر (قَرِيباً) أي : سهل المأخذ وقوله تعالى : (وَسَفَراً قاصِداً) أي : وسطا فحذف اسم كان وهو ما قدرته ، قال الزجاج : لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصدا لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له : مقتصد قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر ، ٣٢] لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى : (قاصِداً) أي : ذا قصد كقولهم : لابن وتامر (لَاتَّبَعُوكَ) أي : وافقوك طلبا للغنيمة (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي : المسافة التي تقطع بمشقة (وَسَيَحْلِفُونَ) أي : المتخلفون (بِاللهِ) إذا رجعت من تبوك معتذرين (لَوِ اسْتَطَعْنا) أي : لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة (لَخَرَجْنا) أي : في هذه الغزاة (مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي : بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) أي : عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك ، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي صلىاللهعليهوسلم أم لا؟ فقال عمرو بن ميمون : اثنان فعلهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون ، وقال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره ، وقال القاضي عياض في الشفاء : إن هذا أمر لم يتقدّم
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) الحديث لم أجده.