جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي : يستتر (أَوْ مُدَّخَلاً) أي : موضعا يدخلونه (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) والمعنى أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لدخلوا إليه وتحرّزوا فيه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي : يسرعون في دخول ذلك المكان إسراعا لا يردّ وجوههم شيء ومن هذا يقال : جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لا يرده اللجام.
ثم ذكر تعالى نوعا آخر من قبائح المنافقين وهو طعنهم في رسول الله صلىاللهعليهوسلم بسبب أخذ الصدقات بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) أي : يعيبك (فِي الصَّدَقاتِ) قال أبو على الفارسي : ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تقسيم الصدقات واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري : بينما رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم مالا إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم رأس الخوارج وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم غنائم حنين واستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه فقال له صلىاللهعليهوسلم : «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١). وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين يقال له الجوّاظ المنافق : ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أبا لك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا» فلما ذهب قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» (٢) ، وقال ابن زيد قال المنافقون : والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت.
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه صلىاللهعليهوسلم قال لرجل من أصحابه : «ما علمك بفلان» فقال : ما لي به علم إلا أنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره» فقال : لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنه مؤمن أكمل إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف فساده» (٣).
(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي : من الصدقات (رَضُوا) أي : رضوا عنك في قسمتها (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي : وإن لم تعطهم عابوا عليك وسخطوا ، قال أهل المعاني : إن هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق المنافقين ودناءة طباعم وذلك لأنه لشدّة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا ، وقال الضحاك : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم بينهم ما آتاه الله تعالى من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله تعالى وأما المنافقون فإن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين ، وكلمة إذا للمفاجأة أي : وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي : المنافقين (رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : ما أعطاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الغنائم والصدقات أو غيرها وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان
__________________
(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦١٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٦٤.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٦٠١.
(٣) أخرجه بنحوه أبو نعيم في حلية الأولياء ٦ / ٢٨٥.