أوّلها : أنّ في الآية المتقدّمة (فَلا تُعْجِبْكَ) بالفاء وههنا بالواو لأنّ الآية الأولى ذكرت بعد قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال والأولاد فلهذ المعنى نهاه الله تعالى عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو. ثانيها : أنه قال تعالى في الآية الأولى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) وههنا كلمة لا محذوفه لأنّ مثل هذا الترتيب يبدأ فيه بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال : لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وهذه الآية تدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم. ثالثها : أنه تعالى قال هناك : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) وههنا قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ) فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وإن ورد حرف التعليل ومعناه أنه كقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله. رابعها : أنه ذكر في الآية الأولى (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وههنا أسقط لفظ الحياة تنبيها على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة مبلغا إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على كمال دناءتها ، قال الرازي : فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم بتحقيق القرآن هو الله تعالى.
فإن قيل : ما الحكمة في التكرير؟ أجيب : بأنه أشدّ الأشياء جذبا وطلبا للخواطر الاشتغال بالدنيا وهي الأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرّة بعد أخرى في المطلوبية والمرغوبية كما أعاد تعالى قوله في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ، ٤٨] مرّتين وقيل : إنما كرّر هذا المعنى لأنّ الآية الأولى في قوم منافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وهذه الآية في قوم آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنيا عن ذكره مع آخرين.
وقوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يحتمل أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها أي : طائفة من القرآن وقيل : المراد بالسورة سورة براءة لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) أي : بأن آمنوا ويجوز أن تكون أن المفسرة (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ.)
فإن قيل : كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإنّ ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب : بأنّ معناه الدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل ، وقيل : هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون أي : اخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله صلىاللهعليهوسلم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأنّ الجهاد بغير الإيمان لا يفيد شيئا ثم حكى الله تعالى أن عند نزول هذه السورة ما ذا يقولون فقال تعالى : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) قال ابن عباس يعني : أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال ، وقيل : هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم (وَقالُوا) أي : أولو الطول (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي : الذين قعدوا لعذر كالمرضى والزمنى ، وقيل : مع النساء والصبيان ثم ذمّهم الله تعالى بقوله :
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ