والعزى ومناة ، وليس فيه عيبها ، وإن لم ينزله الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله ، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، أو مكان حرام حلالا ، أو مكان حلال حراما ، ولما كان كأنه قيل فما ذا أقول لهم؟ قال الله تعالى : (قُلْ) لهم (ما يَكُونُ) أي : ما يصح (لِي) ولا يتصوّر بوجه من الوجوه (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ) أي : قبل (نَفْسِي) وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بالسكون (أَنْ) أي : ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فيما آمركم به أو أنهاكم عنه ، أي : لا آتي بشيء ولا أذر شيئا من نحو ذلك إلا متبعا لوحي الله تعالى وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إليّ تبديل ولا نسخ (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي : بتبديله (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي وإني بفتح الياء ، والباقون بالسكون.
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أي : لو شاء الله لم ينزل هذا القرآن ، ولم يأمرني بقراءته عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بقصر الهمزة بعد اللام جواب لو ، أي : لأعلمكم به على لسان غيري ، والباقون بالمدّ المنفصل. وقوله تعالى : (فَقَدْ لَبِثْتُ) أي : مكثت قراءة نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام (فِيكُمْ عُمُراً) سنين أربعين (مِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل أن يوحى إليّ هذا القرآن لا أتلوه ولا أعلمه ، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذا القرآن معجز خارق للعادة.
وتقريره : أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أوّل عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ، ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه ، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ، ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأوّلين ، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم ، فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنّ مثل هذا الكتاب العظيم على من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ، ولم يمارس مجادلة ، أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى ، لا من مثلي ، وهذا جواب عمّا دسوه تحت قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) من إضافة الإفتراء إليه.
تنبيه : أقام صلىاللهعليهوسلم بعد أن أوحي إليه بمكة ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي : ورد في عمره صلىاللهعليهوسلم ثلاث روايات : إحداها : أنه توفي صلىاللهعليهوسلم وهو ابن ستين سنة. والثانية : خمس وستون سنة. والثالثة : ثلاث وستون سنة ، وهي أصحها وأشهرها ، وتأوّلوا رواية ستين بأنّ راويها اقتصر فيها على العقود ، وترك الكسر ، ورواية الخمس أيضا متأوّلة ، وحصل فيها اشتباه ، ولما أقيمت الدلائل على أنّ هذا القرآن من عند الله وجب أن يقال : إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه من منكر ذلك كما قال تعالى : (فَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : أيّ كذب كان من شريك أو ولد أو غير ذلك ، وكأنّ الأصل مبنيّ على تقدير أن يكون هذا القرآن من عند الله ، ولكنه