رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) بالاستهزاء والتكذيب ، وقيل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنما يقولون : سقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا» (١) والنوء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره (قُلِ اللهُ) أي : قل لهم يا محمد الله (أَسْرَعُ مَكْراً) منكم ، أي : أعجل عقوبة وأشدّ أخذا وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية : أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى ، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر ، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه ، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. (إِنَّ رُسُلَنا) أي : الحفظة الكرام الكاتبين (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفا ، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه ، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه ، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم ، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيدا إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم ، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع ، ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها ؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح ، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) أي : يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الانفكاك عنه ويمكنكم منه ، (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : يسبب لكم أسبابا توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة ، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة.
ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضا عن ذكر البر بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ) أي : كونا لا براح لكم منه. (فِي الْفُلْكِ) أي : السفن ، فإن قيل : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر؟ أجيب : بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا ، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع ، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل ، أو الجمع كان كبناء حمر ، والمراد هنا الجمع لقوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي : بمن فيها ، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي : لينة الهبوب. (وَفَرِحُوا بِها) أي : بتلك الريح وبالفلك الجارية بها ، وقوله تعالى : (جاءَتْها) جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها (رِيحٌ عاصِفٌ) أي : شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ) أي : وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل : هو شدّة حركة الماء واختلاطه. (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي :
__________________
(١) أخرجه الحميدي في مسنده ٩٧٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٦٤ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٢٣ ، والطبري في تفسيره ٢٧ / ١٢٠.