الحرب والحرث ، والمقصود من هذا بيان منافعها (زَبَدٌ مِثْلُهُ ،) أي : مثل زبد السيل ، وهو خبثه الذي ينفيه الكير ، ومن للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به ، والباقون بالتاء على الخطاب (كَذلِكَ ،) أي : مثل هذا الضرب العلي الرتب المتبين السبب (يَضْرِبُ اللهُ ،) أي : الذي له الأمر كله (الْحَقَّ وَالْباطِلَ ،) أي : مثلهما ، فإنه تعالى مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار ، ومثل الباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وهو قوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ ،) أي : من السيل وما أوقد عليه من الجواهر (فَيَذْهَبُ جُفاءً.)
قال أبو حيان : مضمحلا ، أي : متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري : متفرّقا ، وانتصابه على الحال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ،) أي : يثبت ويبقى لينتفع به أهلها (كَذلِكَ ،) أي : مثل ذلك الضرب (يَضْرِبُ ،) أي : يبين (اللهُ) الذي له الإحاطة الكاملة علما وقدرة (الْأَمْثالَ) فيجعلها في غاية الوضوح ، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل ، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال ، فإن الله يمحقه ويبطله ، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء ، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع ، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة.
ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ ،) أي : أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات ، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم. (الْحُسْنى) قال ابن عباس وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن ، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا ؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ، ٢٦] هذا ما لأهل الحق ، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة ، فالنوع الأوّل قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ،) أي : جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم ؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته ، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته ، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكا لما يساوي عالم الأجناس والأرواح ، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه ؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوبا بالذات ، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ