واللعن ، ونحو ذلك مما فيه غيظهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ،) أي : أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة وكثرة الأنواع والدوام ، وعدم الانقطاع ، ثم بين تعالى أنّ أحدا لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ،) أي : مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءا لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والواقي فاعل من الوقاية ، وهي الحجز بما يدفع الأذية.
ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى : (مَثَلُ ،) أي : صفة (الْجَنَّةِ ،) أي : التي هي مقرهم (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) واختلف في إعراب ذلك على أقوال : الأوّل : قال سيبويه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك (مَثَلُ الْجَنَّةِ.) والثاني : قال الزجاج : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ وخبره. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تقول صفة زيد أسمر ، والرابع الخبر (أُكُلُها ،) أي : مأكولها (دائِمٌ) لأنه الخارج عن العادة ، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف ، الأوّل : تجري من تحتها ، أي : من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني : إن أكلها دائم لا ينقطع أبدا بخلاف جنة الدنيا. والثالث : قوله تعالى : (وَظِلُّها ،) أي : دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة ، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى : (تِلْكَ ،) أي : الجنة العالية الأوصاف (عُقْبَى ،) أي : آخر أمر (الَّذِينَ اتَّقَوْا ،) أي : الشرك ، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى (وَعُقْبَى ،) أي : منتهى أمر (الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير ، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين.
واختلف في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) على قولين الأوّل : أنهم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم ، والمراد بالكتاب القرآن (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص (وَمِنَ الْأَحْزابِ ،) أي : الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل : الأحزاب منكرون كل القرآن؟ أجيب : بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن ، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء ، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني : أنّ المراد بالكتاب التوراة ، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه ، ومن أسلم من النصارى ، وهم ثمانون رجلا أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة ، وفرحوا بالقرآن ؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب ، وسائر المشركين ، وقيل : كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة ، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : ما نعرف إلا رحمن اليمامة؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء ، ٣٦]. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال : (قُلْ ،) أي : يا أكرم الخلق على الله