في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب ، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل ، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت.
والقول الثاني : أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض ، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض ، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص» (١).
وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ، ثم يرجع لمعصية الله تعالى ، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله ، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن : يمحو ما يشاء ، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان ، ٧٠]. وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء ، ١٢]. وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم ، فمن أراد موته أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ، ٤٢] الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها ، فإذا مضت السنة محاه ، وأثبت حكما آخر للسنة المستقبلة. وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.
وقيل : إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.
وقيل : هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة (وَعِنْدَهُ) تعالى (أُمُّ الْكِتابِ) أصل الكتب والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا ، ومنه أمّ الرأس للدماغ ، وأمّ القرى لمكة ، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب ، وفيه قولان : الأوّل : أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كان الله
__________________
(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٤٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ١٩٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٤٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٢٠.