فهو من باب : من جهل شيئا عاداه ، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ) أي : إلى زمن تكذيبهم (تَأْوِيلُهُ) أي : تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ، ومعنى التوقع في (لَمَّا) أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي ، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها ، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا (كَذلِكَ) أي : مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) بتكذيب الرسل ، أي : آخر أمرهم من الهلاك ، فكذلك يهلك من كذبك من قومك ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس ، والمعنى : فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم ، فاحذر أن تفعل مثل فعله.
(وَمِنْهُمْ) أي : من قومك يا محمد ، (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : القرآن ، أي : يصدق به في نفسه ، ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند بالتكذيب (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) في نفسه لغباوته وقلة تدبره ، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان ، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر ، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين ؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي : المعاندين على التفسير الأوّل ، والمصرين على التفسير الثاني ، وفي ذلك تهديد لهم.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي : وإن كذبوك يا محمد بعد الزام الحجة (فَقُلْ) لهم (لِي عَمَلِي) من الطاعة وجزاء ثوابها (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) من الشرك وجزاء عقابه ، أي : فتبرأ منهم فقد أعذرت ، والمعنى : لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. واختلف في معنى ذلك فقيل : معنى الآية الزجر والردع. وقيل : بل معناه استمالة قلوبهم. وقال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الرازي : وهذا بعيد ؛ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب ، وذلك لا يقتضي حرمة القتال ، وآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية ، فكان القول بالنسخ باطلا انتهى. ولا تنبغي هذه المبالغة مع مثل من ذكر ، وقد تبعهما جماعة من المفسرين.
ولما قسم تعالى الكفار قسمين : منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به قسم من لا يؤمن به قسمين : منهم من يكون في نهاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف القسم الأول في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) أي : من هؤلاء المشركين ، (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم لشدّة عداوتهم وبغضهم لك ، فإن الإنسان إذا قوي بغضه لآخر وعظمت نفرته منه صارت نفسه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي : أتقدر على إسماعهم (وَلَوْ كانُوا) مع الصمم (لا يَعْقِلُونَ) أي : لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر ، فكما أنك لا تقدر على إسماع الأصم الذي لا يعقل لا تقدر على إسماع من أصم الله تعالى قلبه ، فإنّ الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما