يحتمل وجهين : الأوّل : أن يكون على إرادة القول ، أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، الثاني : أن يكون كلام الله تعالى ، فيكون شهادة من الله تعالى عليهم بالخسران. والمعنى : أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر ؛ لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي : إلى رعاية مصالح التجارة ، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة ، فصاروا كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب.
وقوله تعالى : (وَإِمَّا) فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة (نُرِيَنَّكَ) يا محمد (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) به من العذاب في حياتك ، وجواب الشرط محذوف ، أي : فذاك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله تعالى : (فَإِلَيْنا) بعد البعث (مَرْجِعُهُمْ) فنريك هناك ما هو أقرّ لعينك وأسرّ لقلبك ، وقوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيه وعيد وتهديد لهم ، أي : أنه تعالى شهيد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة.
ولما بيّن تعالى حال محمد صلىاللهعليهوسلم مع قومه بين أنّ حال كل الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام مع أقوامهم كذلك بقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) أي : من الأمم التي خلت من قبلك (رَسُولٌ) يدعوهم إلى الله تعالى ، وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فيه إضمار تقديره : فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون ، (قُضِيَ) أي : حكم وفصل بينهم بالقسط ، أي : بالعدل. وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان : أحدهما : أنه في الدنيا بأن يهلك الكافرين ، وينجي رسوله والمؤمنين لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ، ١٥] والثاني في الآخرة : وذلك أنّ الله تعالى إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم لقوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [الزمر ، ٦٩] والمراد منه : المبالغة في إظهار العدل وهو قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في جزاء أعمالهم شيئا بل يجازى كل واحد على قدر عمله فكذلك يفعل بهؤلاء.
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب ومن قيام الساعة وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : فيما تعدونا به ، وإنما قالوا بلفظ الجمع على سبيل التعظيم أو خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، وإن كان كل أمة قالوا لرسولها مثل ذلك وهو الموافق لقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) قال الله تعالى : (قُلْ) أي : قل لهم يا محمد (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) من مرض أو فقر أدفعه (وَلا نَفْعاً) من صحة أو غنى أجلبه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يقدرني عليه ، فكيف أملك لكم حلول العذاب أو قيام الساعة ولا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى! (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي : مدّة مضروبة (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي : انقضت مدّة أعمارهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) أي : لا يتأخرون (عَنْهُ ساعَةً) ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : ولا يتقدّمون ، أي : ولا يستعجلون ؛ فإنّ الوفاء بالوعد لا بدّ منه ، والسين فيهما بمعنى الوجدان ، أي : لا يوجد لهم المعنى الذي منع منه الفعل ، ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون التأخر ولا التقدّم وإن اجتهدوا في الطلب ، فيكون في السين معنى الطلب. وتدلّ الآية على أن أحدا لا يموت إلا بانقضاء أجله ، وكذا المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه. وقرأ قالون والبزي