(قُلْ) يا محمد لكفار مكة (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (ما أَنْزَلَ) أي : خلق (اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) وأنه تعالى جعل الرزق منزلا ؛ لأنه مقدر في السماء يحصل بأسباب منها (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ) أي : من ذلك الرزق (حَراماً وَحَلالاً) وهو مثل ما ذكروه من تحريم السائبة والوصيلة والحام ، ومثل قولهم : هذه أنعام وحرث حجر. ومثل قولهم : هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا. ومثل قولهم : ثمانية أزواج من الضأن اثنين (قُلْ) لهم يا محمد (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في هذا التحريم والتحليل (أَمْ) أي : بل (عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي : تكذبون على الله بنسبة ذلك إليه
(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) أي : يتعمدون (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي : أيّ شيء ظنهم به (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أيحسبون أن لا يؤاخذهم ولا يجازيهم على أعمالهم؟ فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والتهديد والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بنعم كثيرة لا تحصى منها : إنزال الكتب مفصلا ، فيها ما يرضيه وما يسخطه ، ومنها : إرسال الرسل عليهم الصلاة والسّلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها ، ومنها : طول إمهالهم على سوء أفعالهم ، ومنها : إنعامه عليهم بالعقل ، فكان شكره واجبا عليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : الناس (لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم ولا يستعملون العقل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبيائه ، ولا ينتفعون باستماع كتب الله.
وقوله تعالى : (وَما تَكُونُ) خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (فِي شَأْنٍ) أي : عمل من الأعمال وجمعه شؤون ، والضمير في قوله تعالى : (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) إمّا للشأن ؛ لأنّ تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بل هو معظم شأنه ، وإمّا للتنزيل كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل (مِنْ قُرْآنٍ) لأنّ كل جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له ، وإما لله تعالى ، والمعنى : وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك ، وقوله تعالى : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أي : أيّ عمل كان تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رئيسهم وهو النبيّ صلىاللهعليهوسلم ولذلك ذكر حيث خص بما فيه فخامة وهو الشأن ، وذكر حيث عمّ بقوله تعالى : (مِنْ عَمَلٍ ،) بما يتناول الجليل والحقير ، وقيل : إنّ الكل داخلون في الخطابين الأوّلين أيضا ؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق ، ١].
(إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) أي : رقباء نحصي عليكم أعمالكم ؛ لأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء وعالم بكل شيء إذ لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى ، فكل ما يدخل في الوجود هنا من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وشاهد عليه (إِذْ تُفِيضُونَ) أي : الله شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون (فِيهِ) أي : ذلك العمل. وقيل : الإفاضة الدفع بكثرة. وقال الزجاج : إذ تنتشرون فيه ، يقال : أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه (وَما يَعْزُبُ) أي : يغيب (عَنْ رَبِّكَ) يا محمد (مِنْ مِثْقالِ) أي : وزن (ذَرَّةٍ) وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّا. وقيل : المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم ، ومن صلة على القراءتين ، وإنما قيد بقوله تعالى : (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) تقريبا لعقول العامّة. فإن قيل : لم قدّم ذكر الأرض على السماء ، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي