عليهم أعرضوا عنه فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرهم كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم ، وفي الدارمي عن قتادة قال : ما جالس أحد القرآن فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية.
ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الكافرين الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب جدّهم واجتهادهم فقال تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا) أي : بما لنا من العظمة (عَلَى الْإِنْسانِ) أي : هذا النوع هؤلاء وغيرهم وقال ابن عباس : إنّ الإنسان ههنا هو الوليد بن المغيرة. قال الرازي : وهذا بعيد بل المراد ، أي : نوع الإنسان إذا أنعمنا عليه (أَعْرَضَ) أي : عن ذكرنا ودعائنا إذ شأن نوع الإنسان أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلا عن عبودية الله متمرّدا عن طاعة الله كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧]. (وَنَأى) عن ذكر الله (بِجانِبِهِ) أي : لوى عطفيه وبعد نفسه كأنه مستغني بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. وقرأ ابن ذكوان بألف ممدودة بعد النون وتأخير الهمزة مثل جاء وفي هذه القراءة تخريجان أحدهما من نأى ينوء ، أي : نهض. والثاني : أنه مقلوب من نأى فيكونان بمعنى. قال ابن عادل : ولكن متى أمكن عدم القلب فهو أولى. وقرأ الباقون بالهمزة بعد النون وألف بعد همزة وآمال الألف بعد الهمزة السوسيّ وشعبة وخلاد محضة بخلاف عن السوسي وأمالها ورش بين بين وأمال الهمزة والنون محضة خلف والكسائيّ وفتح الباقون. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : هذا النوع وإن قل (كانَ يَؤُساً) أي : شديد اليأس عما عهده من رحمة ربه والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها ونسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله فهذا المسكين محروم أبدا عن ذكر الله تعالى ونظيره قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) [الفجر : ١٥ ، ١٦] وكذلك (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ١٩ ، ٢٠ ، ٢١] إلا من حفظه الله وشرّفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم. (قُلْ كُلٌ) من الشاكر والكافر (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي : طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعناه عليه من خير أو شرّ (فَرَبُّكُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنّ الذي خلقكم وصوّركم (أَعْلَمُ) من كل أحد (بِمَنْ هُوَ) منكم (أَهْدى سَبِيلاً) أي : أوضح طريقا واتباعا للحق فيشكر ويصبر احتسابا فيعطيه الثواب ومن هو منكم أضلّ سبيلا فيجعل له العقاب لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغيره تعالى إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة وقد روى الإمام أحمد لكن بسند منقطع عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل تغير عن طبعه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه» (١).
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٤٣ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ١٢٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٤٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٩٦.