واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) أي : التوراة (مِنْ قَبْلِكَ) أي : فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه ، فقيل : هو النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الظاهر ، والمراد أمته كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب ، ١] وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ، ٦٤]. وقوله تعالى لعيسى عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة ، ١١٦] ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني ، واسمعي يا جارة ، والذي يدل على صحة ذلك وجوه : الأوّل : قوله تعالى في آخر السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني : أنه صلىاللهعليهوسلم لو كان شاكا في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية ، الثالث : إذا قدر أن يكون شاكا في نبوّة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه صلىاللهعليهوسلم ، إلا أنّ المراد هو الأمّة ، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميرا عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في قلوبهم ، وقيل : الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه صلىاللهعليهوسلم لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول : يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «لا أشك ولا أسأل أحدا منهم» (١) ، ونظير هذا قوله للملائكة : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ ، ٤٠] والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة ، ١١٦] والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليهالسلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل : الخطاب لكل من يسمع ، أي : إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم ، وأظهر هذه الأقوال أوّلها ، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي : الشاكين فيه ، وفي قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : الذين خسروا أنفسهم.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم (لا يُؤْمِنُونَ) أي : يموتون كفارا فلا يكون غيره ، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود ، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى ، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فحينئذ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع ، والباقون بغير ألف على الإفراد.
__________________
(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ١٠٢١١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣١٧.