كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيي الموتى ، ويا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوها ، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : اللهمّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات.
فإن قيل : قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته ، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم ، فما الفرق بين الحالين؟ أجيب : بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة ، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك ، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه.
قال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمد (لَآمَنَ) بك وصدّقك (مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (جَمِيعاً) أي : مجتمعين على ذلك في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ولكن لم يشأ أن يصدّقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل ، وفي هذا تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فإنه كان حريصا على إيمانهم كلهم ، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له السعادة الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم. وهو قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) أي : الذين لم يرد الله إيمانهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه وتحرص عليه ، إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئة الله تعالى وقضائه وليس لأحد ذلك سواه. كما قال تعالى : (وَما كانَ) أي : وما ينبغي وما يتأتى (لِنَفْسٍ) أي : واحدة فما فوقها (أَنْ تُؤْمِنَ) أي : يقع منها إيمان في وقت مّا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته لها بالإيمان ، فإنّ هدايتها إلى الله فهو المهدي والمضل.
وقال ابن عباس : بأمر الله. وقال عطاء : بمشيئة الله. (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) أي : العذاب والخذلان فإنه سببه. وقرأ شعبة وحده بالنون (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : لا يتدبرون في آيات الله تعالى ، فينتفعوا بها وهم يدعون أنهم أعقل الناس ويتساقطون في مساوئ الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها ، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ.)
ولما بين الله تعالى في الآيات السابقة أنّ الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل بقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات (ما ذا) أي : الذي (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات وواضح الدلالات من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته ، ففي العالم العلوي الشمس والقمر وهما دليلان على الليل والنهار والنجوم وحركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها ، والكواكب وما يختص بذلك من المنافع ، وفي العالم السفلي الجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان ، وأخصها حال الإنسان. كل ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى ، وأنه خالقها ، كما قال القائل (١) :
وفي كل شيء له آية |
|
تدل على أنه واحد |
__________________
(١) البيت من المتقارب ، وهو لأبي العتاهية في ديوانه ص ١٠٤ ، وتاج العروس (عته).