(الر كِتابٌ) مبتدأ وخبر ، أو كتاب خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم الكلام على أوائل السور أول سورة البقرة. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة ، والباقون بالفتح. وقوله تعالى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) صفة للكتاب وفسر الإحكام بوجوه :
الأوّل : أحكمت آياته ، أي : نظمت نظما محكما لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف ، ولا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ، ولا يستطيع أحد نقض شيء منه ولا الطعن في شيء من بلاغته أو فصاحته.
الثاني : أنّ الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ،) أي : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به كما قال ابن عباس.
الثالث : أنها أحكمت بالحجج والدلائل ، أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما ؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية وقوله تعالى : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) صفة أخرى للكتاب ، أي : بينت بالأحكام والقصص والمواعظ والأخبار ، وبالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه ، أو بجعلها سورا. وقال الحسن : أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد.
تنبيه : معنى ثم في قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وقوله تعالى (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي : الله تعالى صفة أخرى للكتاب ، والتقدير : الر كتاب من حكيم خبير ، أو خبر بعد خبر والتقدير : الر من لدن حكيم خبير أو صلة لأحكمت وفصلت ، أي : أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير. وعلى هذا التقدير قد حصل بين أوائل هذه السورة وبين آخرها مناسبة لطيفة ، كأنه يقول تعالى : أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
وقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) يحتمل وجوها : الأوّل : أن تكون مفعولا له والتقدير : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله. الثاني : أن تكون مفسرة ؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ، قال الرازي : والحمل على هذا أولى ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) معطوف على قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا) فيجب أن يكون معناه ، أي : لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفا على النهي ، فإنّ كونه بمعنى لأن لا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. الثالث : أن يكون كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله على لسان النبيّ صلىاللهعليهوسلم إغراء منه على اختصاص الله تعالى بالعبادة ، ويدلّ عليه قوله صلىاللهعليهوسلم (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) أي : الله (نَذِيرٌ) بالعقاب على الشرك (وَبَشِيرٌ) بالثواب على التوحيد ، كأنه قيل : ترك عبادة غير الله تعالى بمعنى اتركوها إنني لكم منه نذير وبشير كقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد ، ٤].
تنبيه : هذه الآية الكريمة مشتملة على أشياء مترتبة : الأوّل : أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا الله لأنّ ما سواه محدث مخلوق مربوب ، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده ، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل ، وذلك لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن ، فثبت أن عبادة غير الله تعالى منكرة. المرتبة الثانية : قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.) المرتبة الثالثة : قوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على